الخطبة الأولى:
أن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله
قال عزّ وجل: “يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون” وقال تعالى: “يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا”، وقال سبحانه: “يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا” .. أما بعد:
أيها المؤمنون:000 يا من استجبتم لنداء الله فاجتمعتم في بيت من بيوت الله امتثالاً لأمره سبحانه حيث قال في كتابه: “يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون”. احمدوا الله الذي هداكم لهذا واختاركم من بين كثير قد اعرضوا عن صراط الله المستقيم.
عباد الله: أصحاب العقول والقلوب والفطر السليمة حياتنا وواقعنا عبر وتفكر وتذكر إنما يتذكر أولو الألباب، فموسم الخير موسم الحج قد انتهى واعتق فيه رقاب شتى من كل لون وجنس خرجوا كيوم ولدتهم أمهاتهم ومغفورة ذنوبهم مرفوعة درجاتهم وذلك جزاء من يزكى قال عزّ من قائل: “للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة” انتهى هذا الموسم الذي جاء إليه الناس من كل مكان يتنافسون يتسابقون ليدركوا هذا الموسم الذي فيه خيرًا كثيرًا فماذا بعد الحج؟!
بعد أن أدوا مناسكهم وأرضوا ربهم وحزم كل منهم متاعه ليعود إلى أهله ووطنه فرحًا مسرورًا بما قدَّم من الطاعات بعد أن تحققّت له الأمنية وتمت له العطية حاله كحال من يؤتى يوم القيامة كتابه بيمينه ويحاسب حسابًا يسيرًا وينقلب إلى أهله مسرورًا. ذلك لأنه عاش أيامًا وأسابيع بعيدًا عن أهله ما خرج إلا للطاعة فعقله وقلبيه معلقان بالله واليوم الآخر. فالجنة يريد أن يدخلها والنار يطلب مغفرة تنجيهِ منها. كيف يكون الحال بعد هذا كله إلى خير وعمل صالح وتوبة نصوح أم عودة إلى المعاصي والذنوب والى ما حرمه الله عز وجل بعد أن عود نفسه على جميل الصفات والمحافظة على الصلوات؟!
عباد الله: غسل الخطيئة والذنب بالتوبة أوجب من غسل الثياب من الوسخ والتوبة تصقل القلب وتطهره على الدوام لئلا تكثر الخطايا على القلب فيصعب عندئذٍ العلاج وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها). ولهذا أمر الحق سبحانه وتعالى عباده بالاستغفار والتوبة حتى عقب الطاعات. قال تعالى: “ثمَّ أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم” لبَّ أمر رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم بالاستغفار عقب أعظم العبادات بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة فقال عز من قائل: “إذا جاء نصر الله والفتح- ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجًا- فسبح بحمد ربك- واستغفره إنه كان توابًا” ، فجعل خاتمة الأعمال الصالحة الاستغفار وامتدح المستغفرين بالأسحار بعد أن أحيوا ليلهم بالقيام وتلاوة القرآن والدعاء ثم ختموا ذلك بالاستغفار قدموا أعمالهم الصالحة وهم يعلمون أن ما قدموه لا يفي بشيء من نعم الله عليهم وأن كل قدموه لا يليق بجلال ربهم وخالقهم فهم لهذا مشفقون أن لا يقبل منهم فيستغفرون الله مما حصل منهم من التقصير في عبادتهم فالمغرور من غرته طاعته وطن أنه قدم ما هو أهل له أن يدخل به الجنة وما هي إلا رحمة الله عز وجل يصيب بها من يشاء من عباده فمن تاب وأصلح فإن الله غفور رحيم.
عباد الله: يسَّر الله لعباده مثل هذه المواسم لتكون ذكرى لمن كان له قلب لمن كان له عقل فلا يرضى صاحب العقل السليم أنه بعد أن يتوب الله عليه بعد هذا الفوز أن يرمي بنفسه في أوحال الرذيلة مرة أخرى.. لا يقبل بعد هذا الربح الكثير بعد أن فك الله رقبته من تلك القيود التي تهلكه أن يضع تلك القيود مرة أخرى بنفسه على رقبته. لا يقبل بعد أن عاهد الله عزّ وجل أن يخون ذلك العهد الذي عقده في بيت الله وكفى بالله شهيدًا ورقيبًا فلا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون، وكونوا كالذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله النافذ أمره الدائم بره الشديد بطشه وقهره الواجب حمده وشكره لا يرجى إلا نفعه ولا يخاف إلا ضره فتبارك اسمه وجل ذكره أحمده تعالى حمداً يليق بجلاله وأشكره عز وجل على أفضاله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل الحياة لابن آدم مزرعة لأعماله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المعروف بكماله وقواه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى ولتنظر نفس ما قدمت لغد وقفة للمحاسبة بعد هذا الموسم كل يحاسب نفسه هل كان من الرابحين أم من الخاسرين كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا جن عليه الليل يضرب قدميه بعصاه ويقول لنفسه ماذا عملت اليوم وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا وبيني وبينه جدار يقول عمر ابن الخطاب أمير المؤمنين بخٍ، والله لتتقين الله ابن الخطاب أو ليعذبنك.
هكذا أحبتي في الله كانوا يحاسبون أنفسهم ونحن في هذا الموسم انقسمنا إلى أقسام منهم من ربح ومنهم من خسر فوجب على كل قسم أن يحاسب نفسه ويجازيها ويدرك ما بقي من عمره فقسم حج ليدرك الفضل العظيم وقسم لم يحج واجتهد في العشر المباركات ليرتقي إلى أعلى الدرجات وقسم سها ولهى فيا من حججت طلبًا للمغفرة والرضوان ودفعت الغالي والنفيس والتزمت في أيام الحج بما أمرك الله به لبست ما أراد الله ووقفت وبت حيث أمرك الله جعلت نفسك لله لا تأخذ شيئًا من شعرك وبدنك إلا بعد إذن من الله ولا ترمي الجمار إلا في وقت حدده لك الله ذقت الحر والبرد وصبرت.. زاحمت الناس وسابقت لترمي الجمار وبادرت قبلها بالتلبية والذكر وحافظت على الصلاة وطفت وسعيت رغم المشاق والصعاب فتذكر بذلك حالك في الدنيا والتزامك في حياتك كلها بأوامر الله عز وجل كما التزمت في هذه الأيام التي مضت فلا تهدم ما بنيت ولا تشتت ما جمعت فأنت دومًا في عمل وكدح قال عزّ من قائل: “يأيها الإنسان إنك كادحٌ إلى ربك كدحًا فملاقيه” فلا تنظر نظرًا محرم ولا سمع محرم ولا ربًا يؤكل ولا غش ولا خداع ولا سرقة ولا زنا وحاسب نفسك حق المحاسبة كيف قدمت مالك في سبيل الله وكيف صبرت تلك الأيام على ما أراد الله وتذكر أن حياتك في هذه الدنيا ما هي إلا ساعات من ساعات الآخرة وتذكر قوله تعالى: ” قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فسئل العادين” فاصبر ما بقي من عمرك وتزود من الصالحات ومن يهده الله فلا مضل له وانظر في حجك هل كان صحيحاً كاملاً هل أديت أركانه وواجباته فإذا أخللت بواجب وجب عليك دم قبل أن ترجع إلى أهلك وحجك ناقص فليحاسب كل حاج نفسه كيف حج ويجبر حجه إن كان ناقصًا..
عباد الله: والقسم الثاني: من قيدته مصالح أهله وعمله وحال بينه وبين الحج الموانع فبادر باغتنام العمل الصالح في العشر المباركات فصام وقام وتلا القرآن وتصدق وذكر الرحمن وصام يوم عرفة كل ذلك ليرتقي إلى أجر من؟؟؟ إلى أجر المجاهد الذي خرج بنفسه وماله فلم يرجع لا بنفسه ولا بماله أي نال الشهادة ولينال بصيامه يوم عرفة تكفير ذنوب سنة مضت وسنة بقت واحتسبها عند الله الذي لا يضيع أجر المحسنين فهنيئاً لمن حاسب نفسه واغتنم ما بقي من عمره في مثل هذه الطاعات صيام وذكر وصلاة وتقرب إلى الملك العلام ولا تهدم ما فعلت وجمعت من الحسنات كما قال تعالى: “وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورًا”.
أما القسم الثالث: الذي فاتته تلم الأيام بخيراتها وذهبت لم ينل منها خيرًا أما آن له أن يتفكر في نفسه وحاله ومصيره يرى إخوانه اجتهدوا في هذا الموسم بالطاعات ولا يشارك أحدًا منهم تعرض عليه نفحات الرحمن إلى عتبات قلبه وهو يردها قد ترك الصلوات كلها وانكب على الشهوات وآثر الحياة الدنيا على الآخرة يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها فهل من استغفار ندمٍ واستغفار رجوعٍ قال تعالى: “فرحمة الله واسعة للذين يتقون” وقال: “ورحمته وسعت كل شيء” قال سبحانه: “فسأكتبها للذين يتقون” وذكر أيضا سبحانه: “إن رحمة الله قريب من المحسنين” ولله مائة رحمة يقول أحد السلف الصالح المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه، نسال الله سبحانه وتعالى أن يوقظ قلوب الغافلين وأن ينقذنا من شراك الشياطين أن يقبل التائبين المستغفرين.
عباد الله: لا تخلعوا ثوب الطاعة والصفاء فتنتكسوا بعد الاهتداء وتسودوا صفحاتكم البيضاء بأعمال سوداء واحذروا أن تتولوا فيستبدل قومًا غيركم.
عباد الله: “إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا”
اللهم اكتب لمن حج بيتك حجًا مبرورًا وسعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا وتجارةً لن تبور وهدىً لا يضل بعده ولا يحور.. اللهم اكتب لمن اجتهد في العشر بالطاعات أجرًا كبيرًا واغفر لمن صام يوم عرفة ذنوبًا كثيرةً إنك أنت الغفور الرحيم الله.. اختم آجالنا بأعمال صالحة ترضيك عنا، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وارحمهما كمل ربونا صغارًا، اللهم اغفر لكل من طلب منّا الدعاء وأوصانا به، اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم والفوز بالجنة والنجاة من النار.. عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.