رأيت الناس يذمون الحاسد و يبالغون ويقولون: لا يحسد إلا شرير يعادي نعمة الله، ولا يرضى بقضائه، و يبخل على أخيه المسلم.
فنظرت في هذا فما رأيته كما يقولون، و ذاك أن الإنسان لا يحب أن يرتفع عليه أحد، فإذا رأى صديقه قد علا عليه تأثر هو ولم يحب أن يرتفع عليه، وود لو لم ينل صديقه ما ينال، أو أن ينال هو ما نال ذاك لئلا يرتفع عليه وهذا معجون في الطين، و لا لوم على ذلك
إنما اللوم أن يعمل بمقتضاه من قول أو فعل. وكنت أظن أن هذا قد وقع لي عن سري وفحصي، فرأيت الحديث عن الحسن البصري قد سبقني إليه.
قال: أخبرنا عبد الخالق بن عبد الصمد، قال: أخبرنا ابن النقود، قال: أخبرنا المخلص، قال: حدثنا البغوي، قال: حدثنا أبو روح، قال: حدثنا مخلد بن الحسين، عن هشام عن الحسن، قال: [ليس من ولد آدم إلا و قد خلق معه الحسد…!]. والعزلة عن الخلق سبب طيب العيش. ولابد من مخالطة بمقدار، فدار العدو واستحله، فربما كادك فأهلكك. وأحسن إلى من أساء إليك. واستعن على أمورك بالكتمان، ولتكن الناس عندك معارف، فأما أصدقاء فلا.
لأن أعز الأشياء وجود صديق، ذاك أن الصديق يجب أن يكون في مرتبة مماثل. فإن صادفته عاميًا لم تنتفع به لسوء أخلاقه، و قلة علمه و أدبه، و إن صادفت مـماثلاً أو مقاربًا حسدك. وإذا كان لك يقظة تلمحت من أفعاله وأقواله ما يدل على حسدك قال تعالى: “ولتَعرِفَنَّهُم فِي لحنِ القَول”. وإذا أردت تأكيد ذلك فضع عليه من يضعك عنده. فلا يحرج إليه إلا بما في قلبه. فإن أردت العيش فابعد عن الحسود؛ لأنه يرى نعمتك، فربما أصابها بالعين. فإن إضطررت إلى مخالطته فلا تفش له سرك ولا تشاوره، ولا يغرنك تملقه لك، ولا ما يظهره من الدين والتعبد، فإن الحسد يغلب الدين. وقد عرفت أن قابيل أخرجه الحسد إلى القتل. وإن أخوة يوسف باعوه بثمن بخس. وكان أبو عامر الراهب من المتعبدين العقلاء، وعبد الله بن أبي من الرؤساء، أخرجهما حسد رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى النفاق و ترك الصواب. ولا ينبغي أن تطلب لحاسدك عقوبة أكثر مما هو فيه، فإنه في أمر عظيم متصل لا يرضيه إلا زوال نعمتك. وكلما امتدت امتد عذابه، فلا عيش له وما طاب عيش أهل الجنة إلا حين نزع الحسد والغل من صدورهم. ولولا أنه نزع تحاسدوا وتنغص عيشهم. فمن لم يجاوز ذلك بقول ولا بفعل لم يتبعه شيء! [صيد الخاطر: ج1/ 430].
لما ظهرت فضائل آدم عليه السلام على الخلائق بسجود الملائكة له وبتعليمه أسماء كل شيء وإخباره الملائكة بها وهم يستمعون له كاستماع المتعلم من معلمه، حتى أقروا بالعجز عن علمه و أقروا له بالفضل وأسكن هو وزوجته الجنة، ظهر الحسد من إبليس و سعى في الأذى *** وما زالت الفضائل إذا ظهرت تحسد:
لا مات حسّــادك بـل خـلدوا *** حتى يروا منك الذي يكمد
لا زلت محسوداً على نعمة *** فـإنما الكامـل مـن يحسـد
فما زال يحتال على آدم حتى تسبب في إخراجه من الجنة و ما فهم الأبله أن آدم إذا خرج منها كملت فضائله ثم عاد إلى الجنة على أكمل من حاله الأول،إنما أهلك إبليس العجب بنفسه و لذلك قال أنا خير منه، و إنما كملت فضائل آدم باعترافه على نفسه: “قَالا رَبَّنَا ظَلَمنَا أنفُسَنا”.
كان إبليس كلما أوقد نار الحسد لآدم فاح بها ريح طيب آدم واحترق إبليس:
و إذا أراد الله نـشـر فـضـيـلة *** طويت أتاح لها لسـان حسـود
لولا اشتعال النار فيما جاورت *** ماكان يعرف طيب عرف العود
الرجوع إلى : عن الحسد