تأمل الحكمة في التشديد في أول التكليف ثم التيسير في آخره بعد توطين النفس على العزم والامتثال، فيحصل للعبد الأمر أن الأجر على عزمه، وتوطين نفسه على الامتثال والتيسير والسهولة بما خفف الله عنه. فمن ذلك أمر الله تعالى رسوله بخمسين صلاة ليلة الإسراء، ثم خففها وتصدق بجعلها خمسًا.
ومن ذلك. أنه أمر أولاً، بصبر الواحد إلى العشرة ثم خفف عنهم ذلك إلى الاثنين، ومن ذلك أنه حرم عليهم في الصيام إذا نام أحدهم أن يأكل بعد ذلك أو يجامع، ثم خفف عنهم بإباحة ذلك إلى الفجر. ومن ذلك أنه أوجب عليهم تقديم الصدقة بين يدي مناجاة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلما وطنوا له أنفسهم على ذلك خففه عنهم. ومن ذلك تخفيف الاعتداد بالحول بأربعة أشهر وعشرًا. وهذا كما قد يقع في الابتلاء بالأوامر فقد يقع في الابتلاء بالقضاء، والقدر يشدد على العبد أولاً ثم يخفف عنه، وحكمة تسهيل الثاني بالأول وتلقي الثاني بالرضى وشهود المنة والرحمة.
وقد يفعل الملوك ببعض رعاياهم قريبًا من هذا. فهؤلاء المصادرون يطلب منهم الكثير جدًا الذي ربما عجزوا عنه ثم يحطون إلى ما دونه لتطوع لهم أنفسهم بذله ويسهل عليهم. وقد يفعل بعض الحمالين قريبًا من هذا، فيزيدون على الحمل شيئًا لا يحتاجونه إليها، ثم يحط تلك الأشياء فيسهل حمل الباقي عليهم. والمقصود أن هذا باب من الحكمة خلقًا وأمرًا ويقع في الأمر والقضاء.
والقدر أيضًا ضد هذا فينقل عباده بالتدريج من اليسير إلى ما هو أشد منه، لئلا يفاجأ هذا التشديد بغتة فلا تحمله ولا تنقاد له، وهذا كتدريجهم في الشرائع شيئًا بعد شيء دون أن يؤمروا بها كلها وهلة واحدة. وكذلك المحرمات ومن هذا أنهم أمروا بالصلاة أولاً ركعتين ركعتين، فلما ألفوها زيد فيها ركعتين أخريين في الحضر. ومن هذا أنهم أمروا أولاً بصيام وخُيِّروا فيه بين الصوم عينًا وبين التخيير بينه وبين الفدية، فلما ألفوه أمروا بالصوم عينًا. ومن هذا أنهم أذن لهم بالجهاد أولاً من غير أن يوجبه عليهم فلما توطنت عليهم نفوسهم وباشروا حسن عاقبته وثمرته أمروا به فرضًا. وحكمة هذا التدريج التربية على قبول الأحكام والإذعان لها والانقياد لها شيئًا فشيئًا. وكذلك يقع مثل هذا في قضائه وقدره مقدر على عبده، بل لا بد منه اقتضاه حمده وحكمته فيبتليه بالأخف أولاً ثم يرقيه إلى ما هو فوقه حتى يستكمل ما كتب عليه منه. ولهذا قد يسعى العبد في أول البلاء في دفعه وزواله ولا يزداد إلا شدة لأنه كالمرض في أوله وتزايده. فالعاقل يستكين له أولاً وينكسر ويذل لربه ويمد عنقه خاضعًا ذليلاً لعزته، حتى إذا مر به معظمه وغمرته وأذن ليله بالصباح، فإذا سعى في زواله ساعدته الأسباب. ومن تأمل هذا في الخلق انتفع به انتفاعاً عظيماً ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[بدائع الفوائد: ج1 – ص141]